الإصطباحية قصة بقلم الكاتب ناصر خليفة

الكاتب: 

الكاتب ناصر خليفة

كاتب حر
السبت, أكتوبر 16, 2021 - 21

       كانت الساعة تقترب من  العاشرة صبيحة ذلك اليوم من شهر ديسمبر البارد، أطلّت الشمس من مشرقها بنورها الرباني الدفيء، ساعتها كنت وكالعادة؛ أجلس على طاولة في "مقهى الوناسة" اتناول فنجان قهوة وأتصفح ما أتيح لي من صحف. في نفس المكان الذي اعتاد بضعٌ من "سائقي التوك توك" -يزيدون أو ينقصون - تربطهم علاقة "توكتوكية" حميمة، يجتمعون بعد "مشاوير الصُبحية" توصيل مدارس ورياض الأطفال وخلافه.. اجتمعوا ليتناولوا فطورهم -- فول وفلافل وأشياء أخرى-  مع الشاي والشيشه وأشياء أخرى أيضا .. وعشرتين  الدومينو لو سمح لهم وقتهم . يأتون فرادى وجماعات، يلقون السلام ويتبادلون التحايا والحكايا حلوها ومرها، وعلى طريقتهم  وتعبيراتهم الخاصة وألفاظهم المتداولة فيما بينهم ..  يقعدون على كراسيهم حول طاولاتهم ..ثم يطلقون العنان لألسنتهم -التي لا تقف عند حد ولا عيب ولا توقفها إشارات أخلاقية ولا أدبية  - يسردون ويحكون قصص ومواقف بعضها طريف مقبول الاستماع وبعضها خارج عن حدود الحياء تماما، مما قد يصيب أسماع أمثالي بالصمم من شدة إباحيتها وقُبحها . يتكلمون عن مشاجراتهم ومعاكساتهم وخلافاتهم مع الزبون على تنوع فئاتهم العمرية  والجنسية والاجتماعية، كذلك الزباين  اليمين والزبائن الشمال، كما يحلو لهم الكلام عما ظهر وبان من مفاتن "النسوان" ! وعسكري المرور وضابط الكمين المتكبر المغرور وغيره من المرتشي الجبان. والزحام ومرارة السنين وغُلب الأيام ..

ولا يسلم أصحاب السيارات الملاكي من نقد ألسنتهم الفتاك، وخاصة الجنس الناعم اللاتي يقدن سياراتهن بأنفسهن ! واللاتي لا يجدون معهن بُداً من الإذعان والسماح بمرورهن وتحمل نظراتهن المهينة وتمتمات الاحتقار للتكاتك وسواقين التكاتك .. يمر الوقت وهم لا يزالون يلوكون سيرة الزبائن المختلفة وهم يلوكون طعام الإفطار، ثم يطوون تلك الصفحة بكل ما فيها بعدما أخذت حقها من عبارات الوقاحة والإباحة؛  يتوجهون بالحديث  إلى محطات أخرى عن أخبار الوباء ونار الغلاء والأسعار والبنزين المغشوش والحشيش المرووش .. يقذفون بعضهم البعض بما جادت به قواميسهم من الشتائم بالأم والأب، وكالعادة لا يسلم الدين من السب والعيب .. يمضي الوقت وتمر الدقائق وهم يتسامرون ويمزحون ويتعايرون ويتحاقرون ثم يضحكون ومع ضحكاتهم أصوات الشخير والنفير  وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير ..وقد يتباكون بعض مآسيهم وأحزانهم  وبلاويهم، فلكل واحد منهم مأساة خاصة.. كما لا يخلو واحد من البشر من هذا الابتلاء أو ذاك الضيق .. 
يتفرقون كلٌ منه إلى مسيرة -أكل عيشة- على وعد باللقاء في أفراح المساء وسهرة الليل وآخرة في فرح "على شلاطة" في "المرج القديم" ومحمود الفيومي في "عزبة النخل" .. 

ليس من عادتي أن اقترب منهم أو أحاورهم في شيء فلست منهم ولا هم مني - ولا جعلني الله هذا او ذاك ..  فقط استرق السمع لكن هم في وادٍ وأنا في وادٍ آخر ..لكن في "اصطباحة ذاك اليوم" كانت طاولتي قريبة منهم - على محض الصدفة-  استرقت السمع فضولا وشغفا، كنت اتصنع التركيز فيما أنا فيه من متابعة هاتفي، ولا اثير انتباههم لمتابعتي لهم حتى لا يأتيني من ألسنتهم شهابا رصدا لا أطيقه ! فكنت أتنصت على أحاديثهم خُفية وأنا أحرك رأسي ذات اليمين وذات الشمال كي ابدو طبيعيا خاصة عندما يتناجون بصوت خفي ثنائيات أو ثلاثيات..  ما لفت نظري وشد انتباهي هذا الحوار عالي الصوت نقاش بين " ياسر العمدة -هو شاب صاحب توكتوك - وأبو اسلام " هو أكبرهم سنا وكما يبدو أنه سمسار تكاتك،" ويبدو  ياسر قرر بيع "التوكتوك" لظروف خاصة به فقال بصوت شجي حزين : بقولك ايه يا عمنا عاوز ابيع المكنة اللي معايا دي، وأشار بسبابته إلى التوكتوك الخاص به.

ناصر خليفة
-- اندهش أبو إسلام مستنكرا هذا القرار المفاجئ فقال :  ليه بابني دي موكلاك عيش أنت وعيلتك كلها.. !
--: ظروف ياسطا..!
--: لم يتأخر ابو إسلام في الرد كثيرا - فهو سمسار تكاتك- قال بصوت يظهر الشفقة المصحوبة بالمكر : ومالو ياخويا ربنا يخلف عليك .. عاوز فيها كام ..
-- ياسر : عاوز سبعة وعشرين مقفولين ياسطى ..  واسمع يا ابو إسلام : عليا الحرام من ديني مكنة نضيفة ولو مكدبني أسأل الاسطا ابراهيم شرارة . ثم أردف وهو يحلف : ورحمة أمي التمن ده لك انتا بس وأنا عامل معاك أحلى واجب عشان تاكل فيها لقمة عيش أشطه..
-- أبو إسلام ممتعضا : يا عم روووح انت و"ابراهيم شرارة" بتاعك اللي بوظ نص تكاتك "عين شمس".. يابني التكاتك واقف حالها ومرمية في الخرابات أهي .. واتبع:  كترت ومشاكلها كتير وانت عارف الكلام ده يا عم ياااااسر .. ثم صمت ابو ياسر يفكر برهة ثم قال : هم خمستشراية حلوين ومفيش غيرهم .. ثم نظر إلى من بقي من السواقين المتابعين للحديث ليسألهم سؤال تقريري : والا ايه يا رجالة ؟! 
وقبل أن يجيب "الرجالة"، نهض ياسر غاضبا منزعجا مستكرا :  يا جدع انته بتقول ايييه عالصبح ..متخلنيش اعملها معاك ياسطا ! انته زي اخويا الكبير مش عاوز ازعلك ..  ثم نهض ياسر وقام من مجلسه يقسم : وأيمنات المسلمين إن مجابت السبعة وعشرين لأكسرها وولع فيها بجاز وسخ ، ثم تلفظ بأقذر لفظ يخدش كل حياء : .... أم دي شغلانة .. وأستطرد :  فيه إيه  ياسطا عالصبح.. متتكلم كلام عدل بقا..!
-- بكل هدوء " ورباطة جأش" غير معهودة  قال أبواسلام ملطفا لحرارة انفعال ياسر محاولا تهدئته :  -- طب اتنيل اقعد .. انت شايط كده ليه ؟! مالك فيك ايه يا يلا  ! اقعد بقا متبقاش حمار ..
-- جلس ياسر ويبدو على وجهه الضجر والحزن واليأس : لا إله الا الله ..استغفر الله يارب .. وأردف بصوت هادئ ولا زالت نبرة الحزن تغشاه: ياسطا الدنيا وحشة معايا وأنا حكيلك من اسبوع عالظروف "الخرة" اللي أنا فيها.. اختي الوحيدة بتتجوز ولازمها حجات كتير.. وابويا من ايدك والأرض،من ساعة امي مماتت وهو مجبش قدام، وبيكح تراب، وضغط وسكر، وبلا أزرق لا مؤآخذه..! واستطرد ياسر : الواد خطيب أختي صاحبي الواد "عرفة متولي" منته عارفه يابو اسلام؛  الواد متخانق مع ابوه وعاوز ينجز المشوار ده. انا عاوز اسَتّر البنت واكمل مشوارها واخلص ياسطا..
واردف -- وتكاد الدموع تقفز من عينيه -- يقول : الدنيا ولعت وأيام حبر وسواد ياسطا .. ياسطا المكنة الماااااظة وسالكة ، وموكلاني عيش بس الظروف حكمت .. اعمل ايه؟ . قلت ابيعها اصَرّف نفسي ،وآخد وردية توكتوك الواد "بولس" جارنا واد جدع ورجوله وأهو مش من دينا ياسطا.. واللي من دينا أهو مطلع دينا ودين أبونا !  
-- تأثر أبو إسلام بأحاسيس ياسر وقال متعاطفا: خلاص يا ابن الجزمة .. قطعت مصاريني ولوعت كبدي، وطيرت الحجرين من نفوخي، أنا مش ناقص مرار طافح عالصبح .. هشوفلك الواد "سيد ربيع" واشَيلُه المكنة، وفلوسك اعتبرها في جيبك، ولا تزَعل نفسك .. بس بص أنا هجيبلك سته وعشرين والألف حلاوة لاخوك الواد إسلام ابني ،،، ماشي ،، وَجَب ،، أمين امين؟!
-- قال ياسر وقد هدأت نفسه قليلا : ماشي ياسطا.. واستطرد يقول : اشوفك الليله في عزبة النخل في فرح "علي شلاطة"  متنساش الواجب ..  ضحك الجميع وهموا في وقت واحد كلٌ في طريقه . وبقيت أنا أحدث نفسي حتى قاطعني سعيد القهوجي : اجيبلك قهوة بدل اللي بردت يا حاج  . لا لا شكرا الحساب  كم من فضلك .. ثم انصرفت غير نادم على قهوتي الباردة.