مليكة الصحراء لغزا تم حله في فيلم "143 طريق الصحراء"

الكاتب: 

إسراء علي البهنساوي

كاتبة صحفية
الأربعاء, أكتوبر 14, 2020 - 18

قدم لنا المخرج الجزائري الشاب ، حسان فرحاني،  فيلما بعنوان  "143 طريق الصحراء ، والذي يقدم لنل حلا للغز وراء اختيار امرأة في الستينيات من العمر العيش منفردة على حدود الصحراء الكبرى في الجزائر، يفصلها عن أقرب بلدة نحو 70 كيلومترا.

فقدم الفيلم حياة هذه المرأة التي تحمل اسم مليكة، بقدر انشغاله بتوثيق حياتها اليومية وسط هذه العزلة وثرثرة المسافرين العابرين المارين بها، وهي ثرثرة عامة تتناول شتى التفاصيل، من الهموم الشخصية اليومية حتى الشأن السياسي في الجزائر وتقدم صورة عامة للحياة في تلك المنطقة المنعزلة على حافة الصحراء الجزائرية.

وتشكل مليكة بسرعة بديهيتها وحضورها المميز بل وغموضها أحياناً، عماد كل هذه المشاهد في الفيلم. وقد منحت فيلم فرحاني تميزه، بعفويتها وتعاملها السلس مع الكاميرا، والذي قد لا يتوفر عليه حتى بعض الممثلين المحترفين، وقفشاتها الساخرة وذكائها الفطري في إدارة الأحاديث الشيقة مع ضيوفها العابرين قبل ذهابهم في الطريق الصحراوي الطويل.

تعيش مليكة في بيت بسيط مؤلف من حجرتين، وضعت في إحداهما طاولة عتيقة وبضع كراس بلاستيكية، يستريح عليها عابرو السبيل وسائقو الشاحنات لتبيعهم الشاي والماء والسجائر ووجبات طعام بسيطة تتألف من البيض في الغالب، قبل أن يواصلوا رحلاتهم في الصحراء على "الطريق الوطني رقم واحد"، وهو طريق صحراوي في معظمه، يقطع الجزائر من الشمال إلى الجنوب ويمتد على مسافة 2335 كم، كما يعد من أقدم الطرق في الجزائر إذ يرجع بدء انشائه إلى عام 1864.

وكان هدف فرحاني في البداية صنع فيلم طريق وثائقي عن هذا الطريق الرئيسي في الجزائر، معتمدا على تجربة صديقه الصحفي والروائي الجزائري شوقي عمّاري، الذي كتب كتابا تحت عنوان "الطريق الوطني رقم واحد"؛ بيد أنه غيّر خططه عند مشاهدته مليكة بعد أن قاده عماري إلى مقهاها في عمق هذا الطريق الصحراوي.

مليكة الصحراء

جعلت مليكة من مقهاها البسيط هذا بوابة للدخول إلى عالم الصحراء الكبرى التي تحتل معظم مساحة الجنوب الجزائري وتمتد إلى بلدان أفريقية أخرى. كما حرصت على بناء علاقة متحفظة مع أقرب مجتمع لها ويبعد عنها نحو 70 كيلومترا في بلدة "المنيعة" وسط الجزائر التي توصف بأنها بوابة الصحراء الكبرى، وتبعد نحو 870 كيلومترا عن العاصمة الجزائرية.

تحكي مليكة في الفيلم أنها كانت تمتلك علاقات طيبة مع الجميع، لكن المجتمع (الذكوري) لا يحتمل بقاء امرأة منفردة، فوصمها بأنها سيئة السمعة، لذا باتت مسافة البعد هذه بينها وبين المجتمع مسافة مفضلة من الطرفين.

تتجنب مليكة الحديث عن حياتها الشخصية قبل قدومها إلى هذا المكان، لكننا نعرف من جمل عابرة تتسرب من أحاديثها أنها قدمت إلى هذه المنطقة من الشمال الجزائري. وهي تعيش منفردة في هذا المكان منذ عام 1994. كما نتلمس من أحاديثها أنها تمتلك خبرة حياتية واضحة، وتتحدث الفرنسية وقادرة على التفاهم مع زبائنها بها.

فهذا المكان الذي لا وجود له على الخارطة والذي أنشأته مليكة بجهدها وصبرها وطبعته بملامحها، (حتى الرقم الذي اختاره الفيلم عنوانا للمكان وعنوانا للفيلم "143 طريق الصحراء"، هو غير حقيقي وجاء من رقم كتب عشوائيا على جدار مقهاها، وتعليق لأحد المسافرين المارين بالمكان)، بات مهددا بأن ينتحل من موقع محطة الوقود الجديدة التي يستثمر صاحبها ما أسسته مليكة من مكان أصبح ملتقى لسائقي الشاحنات والمسافرين المتوجهين إلى الجنوب الجزائري.

ولكن في قلب كل هذه التفاصيل تظل مليكة حاضرة بسرعة بديهيتها، وبتعليقاتها الساخرة التي تنم عن خبرة حياتية طويلة وبالغموض الذي يلفها ويقف وراء اختيارها لحياة العزلة تلك على حافات الصحراء؛ والذي تتوضح لنا بعض أسبابه في النهاية؛ عندما نعرف أن لدى مليكة عائلة سابقة وابنة قد قتلت.

ويرد هذا التفصيل عابرا في إحدى حوارتها، ويتجنب فرحاني الغوص في تفاصيل هذا الجانب، فما يهمه هو واقع مليكة الراهن وليس ماضيها وصورة الحياة اليومية التي ترصدها كاميرته، الآن وهنا، حولها.

وقد حرص على أن تكون بطلته مليكة هي محور حركته، فلم ينجذب إلى إغراء الخروج لتصوير جماليات الصحراء في لقطات عامة للرمال وتحولات الضوء فيها في أوقات الغروب أو الفجر على سبيل المثال، التي تحفل بها الأفلام التي تناولت الصحراء.

لكنه نجح بالمقابل في خلق معادلات جمالية ضمن مكانه المحدود، في استثمار ما تتيحه الكوى والنوافذ في المنزل البسيط من إطلالات على الخارج المقفر، الذي كان يملأه باستثمار تلك التفاصيل العابرة فيه، كوقوف شاحنة وشد غطائها في طقس رملي عاصف، حركة الكلب أو القطة بالقرب منه، أو المسافرين المارين في الطريق وغيرها.

ونجح فرحاني عبر هذا الأسلوب المقتصد (المينماليست) في إعطائنا مشاهد ذات جمالية مميزة، كما في مشهد تمثيل السجن واستثمار أسلاك النافذة (أو بالاحرى الكوة الصغيرة في المنزل بعد رفع غطائها الخارجي)؛ أو في المشهد الليلي الذي صور فيه المنزل البسيط وسط الفضاء الموحش المحيط به، و توزيعات أشعة الضوء المنبعثة من نوافذه وبابه.

وكما وقف بيت مليكة على حافة الصحراء، بدا فيلم فرحاني مستعيرا هذا الموقع ليكون فيلما على حافة الصحراء، لا تحضر الصحراء فيه أمامنا بل تمتد عميقا داخل العزلة التي تعيشها شخصياته.

وظل فرحاني يعتمد موقف المراقب عبر رصد كاميرته الثابتة في معظم الأحيان والتي تراقب بحيادية ما يجري أمامها، ولم يخرج عن ذلك إلا في مشهد النهاية الذي حرص فيه على أن يجعل كاميرته تطوف حول بيت مليكة في حركة "ترافيلنغ" على مدار 360 درجة وعلى أنغام موسيقى أغنية من منطقة القبائل، في استعارة ميثولوجية واضحة، يقول إنها استعارة من تقليد بالطواف لثلاث مرات على إحدى الزوايا الصوفية في جنوب الجزائر ، بي بي سي عربي.


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0